### **"مكتوب، حبي": عودة كشيش من المنفى السينمائي لإكمال ثلاثية الجسد والقدر**
في عالم السينما، هناك مخرجون يصنعون أفلامًا،
وهناك قلّة منهم يصنعون أحداثًا تهزّ الصناعة وتثير جدلاً يمتد لسنوات. ينتمي
المخرج التونسي-الفرنسي عبد اللطيف كشيش، بلا شك، إلى الفئة الثانية.
![]() |
### **"مكتوب، حبي": عودة كشيش من المنفى السينمائي لإكمال ثلاثية الجسد والقدر** |
- وبعد غياب قسري وصمت طويل تلا العاصفة التي أثارها الجزء الثاني من ملحمته السينمائية، يعود
- كشيش ليضع النقطة الأخيرة في ثلاثيته المنتظرة "مكتوب، حبي". الإعلان عن عرض الجزء الثالث
- والختامي ضمن المسابقة الرسمية لـ "مهرجان لوكارنو" السينمائي المرموق في سويسرا، ليس مجرد
- خبر سينمائي عابر، بل هو أشبه ببعث جديد لمشروع فني كاد أن يدفن تحت ركام فضيحة مدوية
- ويطرح السؤال الأهم: هل هي عودة نحو الخلاص الفني أم جولة جديدة من الصدام مع العالم؟
لفهم حجم الرهان
الذي يحمله هذا العرض، لا بد من
العودة بالذاكرة إلى عام 2019، وتحديدًا إلى "مهرجان كان" السينمائي. وصل
كشيش إلى الكروازيت وهو لا يزال يحمل هالة المخرج الذي انتزع "السعفة الذهبية"
عام 2013 عن تحفته "حياة أديل". كان الجميع يترقب الجزء الثاني من
ثلاثيته، الذي حمل عنوان "مكتوب، حبي: إنترميزو" (Mektoub, My Love: Intermezzo)، بعد أن لاقى
الجزء الأول "كانتو أونو"
(Canto Uno) استحسانًا في مهرجان البندقية عام 2017. لكن
ما عُرض في كان لم يكن فيلمًا بالمعنى التقليدي، بل كان تجربة سينمائية متطرفة،
أشبه بهجوم مباشر على أعصاب المشاهدين وذائقتهم.
- امتد الفيلم لنحو أربع ساعات، قضى معظمها داخل ملهى ليلي صاخب، لكن القشة التي قصمت ظهر
- البعير كانت مشهدًا جنسيًا صريحًا ومطولًا، يستغرق 13 دقيقة كاملة، بين بطلي الفيلم. كان المشهد
- صادمًا في واقعيته وتفاصيله، لدرجة أن بطلة الفيلم نفسها، أوفيلي بو، لم تحتمل رؤيته على الشاشة
- الكبيرة، فغادرت صالة العرض وهي في حالة من الإحراج والغضب
لتغيب عن المؤتمرالصحافي في اليوم التالي. تحول المؤتمر إلى ما يشبه محاكمة علنية لكشيش وسينماه. وُجهت إليه اتهامات بالاستغلال، والنرجسية، والتلصص، وخيانة ممثليه. في مناخ ثقافي عالمي مشحون بحركة #MeToo، بدا كشيش وكأنه يجسد كل ما تحاربه الحركة: المخرج الذكر القوي الذي يستغل سلطته لفرض رؤيته الفنية على أجساد ممثليه، متجاوزًا الحدود الأخلاقية.
خرج كشيش من كان "مهانًا"، وبقي فيلمه "يتيمًا"، لم يجد طريقه أبدًا إلى الصالات التجارية، ليتحول إلى أسطورة سينمائية غامضة لم يشاهدها سوى قلة من المحظوظين أو سيئي الحظ، حسب وجهة النظر.
لم تكن الفضيحة الأخلاقية
هي العائق الوحيد. تراكمت
المشاكل القانونية والمالية، حيث واجهت شركة إنتاجه صعوبات مالية بعد الأداء
التجاري المتواضع للجزء الأول، بالإضافة إلى خلافات معقدة حول حقوق الملكية
الفكرية لعشرات المقطوعات الموسيقية المستخدمة في الفيلم، ونزاعات مع المنتجين حول
مدة المونتاج النهائية التي رفض كشيش التنازل عنها. كل هذه العوامل حكمت على "إنترميزو"
بالبقاء في الأدراج المظلمة.
- الآن، وبعد خمس سنوات، يأتي الجزء الثالث ليفتح هذا الجرح من جديد. هذا الجزء، الذي يحمل على
- ما يبدو عنوان "كانتو دوي" (Canto Due)، ليس مجرد تكملة، بل هو القطعة المفقودة التي قد تمنح
- المشروع بأكمله معناه النهائي. فثلاثية "مكتوب"، المقتبسة بحرية شديدة عن رواية "الجرح الحقيقي"
- للكاتب فرنسوا بيغودو
هي في جوهرها جدارية حسية ضخمة عن الشباب والزمن والرغبة. تدور
أحداثها في صيف عام 1994 المشمس في مدينة سيت الساحلية جنوب فرنسا، وتتتبع حياة
مجموعة من الشبان والشابات من أصول فرنسية وعربية، على رأسهم أمين، الشاب الذي يعود
إلى مسقط رأسه محاولاً أن يجد شغفه بين التصوير الفوتوغرافي وكتابة السيناريو.
ما يقدمه كشيش
هو "تليسكوباج" بصري
وحسي لحياة صاخبة، مليئة بالحب والجنس، الأحلام والخيبات، الصداقات والغيرة. إنه
يرسم لوحة حية عن تلك الفترة الفاصلة بين المراهقة والنضج، حيث كل شيء ممكن وكل
شيء مؤلم. الكاميرا في يد كشيش لا تسجل الأحداث بقدر ما تتنفس مع الشخصيات، تلتصق
بجلودهم، ترصد نظراتهم الخاطفة، وتعابير أجسادهم التي تقول ما لا تستطيع الكلمات
قوله. إنها سينما تؤمن بأن الحقيقة الأعمق تكمن في الجسد، في حركته، في عرقه، في
رقصه، وفي رغبته.
- هذا الهوس بالجسد ليس جديدًا على سينما كشيش، بل هو حجر الزاوية في فلسفته الفنية. في فيلمه
- "كسكسي بالسمك" (2007)، كانت رقصة الممثلة حفصية حرزي الختامية، وهي تؤدي رقصًا شرقيًا
- متفجرًا بالطاقة، هي ذروة الفيلم وصرخة انتصاره على الإحباط. وفي "حياة أديل"، كانت المشاهد
- الحميمية الطويلة هي الوسيلة التي عبر من خلالها عن عنفوان الحب الأول بكل صدقه وفوضويته.
- يرى كشيش أن الجسد هو ساحة المعركة الحقيقية
هو وسيط الوعي الذي من
خلاله نختبر العالم ونتفاعل معه. لذلك، فإن اتهامه بالتلصص أو الذكورية المبطنة
يتجاهل، من وجهة نظر المدافعين عنه، جوهر مشروعه: محاولة التقاط الحياة في حالتها
الخام، بلا تجميل أو رقابة تفرضها "الطهرانية الغربية" أو "الصوابية
السياسية".
إنه مخرج صدامي بطبعه
يجد في الاستفزاز
والفضيحة أدوات فنية يتقنها للكشف عن النفاق الاجتماعي وتحدي المعايير السائدة. سينماه
ليست مريحة، بل هي مصممة لتكون كذلك. إنها تجبر المشاهد على مواجهة أسئلة صعبة حول
حدود الفن، طبيعة التمثيل، العلاقة بين المخرج والممثل، وما هو مسموح أو ممنوع
عرضه على الشاشة.
- مع عرض الجزء الثالث في لوكارنو، يقف كشيش أمام مفترق طرق. هل سيكون هذا الفيلم بمثابة
- الخاتمة المنطقية التي تعيد ترتيب قطع الأحجية، وتبرر التطرف الذي شهده الجزء الثاني، وتمنح
- الثلاثية مكانتها كعمل فني متكامل وعميق؟ أم أنه سيواصل على نفس النهج الاستفزازي، ليؤكد
- صورته كمخرج منبوذ يرفض أي تسوية؟
الترقب هائل، لأن "مكتوب، حبي" ليس مجرد فيلم، بل هو
مشروع حياة لكشيش، محاولة طموحة، على غرار ما فعله مارسيل بروست في الأدب، لالتقاط
الزمن الهارب، وتوثيق الرغبة الإنسانية في أكثر صورها هشاشة وجمالاً.
فى الختام
في النهاية، بغض النظر عن الجدل، فإن عودة عبد اللطيف كشيش لإكمال ثلاثيته هي انتصار للسينما التي تجرؤ على المخاطرة، السينما التي ترفض أن تكون مجرد سلعة استهلاكية آمنة.
إنها تذكير بأن الفن العظيم غالبًا
ما يولد من رحم الألم والصدام، وأن أهم الأعمال هي تلك التي لا نخرج منها كما
دخلناها. العالم سيراقب لوكارنو، ليس فقط لرؤية فيلم، بل ليشهد على الفصل الأخير
من ملحمة مخرج قرر أن يجعل من السينما قدره المكتوب.